كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولم يذكُرْ راوي الحديث تعيينَ معنى القَدَر الذي خاصم فيه كفار قريش فبقي مجملًا ويظهر أنهم خاصموا جَدلًا ليدفعوا عن أنفسهم التعنيف بعبادة الأصنام كما قالوا: {لو شاء الرحمان ما عبدناهم} [الزخرف: 20]، أي جدلًا للنبي صلى الله عليه وسلم بموجَب ما يقوله من أن كل كائن بقدر الله جهلًا منهم بمعاني القَدر.
قال عياض في (الإِكمال) ظاهره أن المراد بالقدر هنا مرادُ الله ومشيئته وما سيق به قدره من ذلك، وهو دليل مساق القصة التي نزلت بسببها الآية. اهـ.
وقال الباجي في (المنتقَى): يحتمل من جهة اللغة معاني:
أحدها: أن يكون القَدَر هاهنا بمعنى مقدر لا يُزاد عليه ولا ينقص كما قال تعالى: {قد جعل الله لكل شيء قدرًا} [الطلاق: 3].
والثاني: أن المراد أنه بقدرته، كما قال: {بل قادرين على أن نسوي بنانه} [القيامة: 4].
والثالث: بقَدر، أي نخلقه في وقته، أي نقدّر له وقتًا نخلقه فيه. اهـ.
قلت: وإذ كان لفظ (قدر) جنسًا، ووقع معلّقًا بفعل متعلق بضمير {كل شيء} الدال على العموم كان ذلك اللفظ عامًا للمعاني كلها فكل ما خلقه الله فَخَلْقُه بقدر، وسبب النزول لا يخصص العموم، ولا يناكد موقعَ هذا التذييل على أن السلف كانوا يطلقون سبب النزول على كل ما نزلت الآية للدلالة عليه ولو كانت الآية سابقة على ما عَدُّوه من السبب.
واعلم أن الآية صريحة في أن كل ما خلقه الله كان بضبط جاريًا على حكمة، وأما تعيين ما خلقه الله مما ليس مخلوقًا له من أفعال العباد مثلًا عند القائلين بخلق العباد أفعالهم كالمعتزلة أو القائلين بكسب العبد كالأشعرية، فلا حجة بالآية عليهم لاحتمال أن يكون مصب الإِخبار هو مضمون {خلقناه} أو مضمون {بقدر}، ولاحتمال عموم {كل شيء} للتخصيص، ولاحتمال المرادِ بالشيء مَا هو، وليس نفي حجيّة هذه الآية على إثبات القدَر الذي هو محَل النزاع بين الناس بمبطل ثبوت القدَر من أدلة أخرى.
وحقيقة القدر الاصطلاحي خفيّة فإن مقدار تأثر الكائنات بتصرفات الله تعالى وبتسبب أسبابها ونهوض موانعها لم يبلغ علمُ الإِنسان إلى كشف غوامضه ومعرفة ما مكّن الله الإِنسان من تنفيذ لما قدّره الله، والأدلة الشرعية والعقلية تقتضي أن الأعمال الصالحة والأعمالَ السيئة سَواء في التأثر لإِرَادة الله تعالى وتعلققِ قدرته إذا تعلقت بشيء، فليست نسبة آثار الخير إلى الله دون نسبة أثر الشر إليه إلا أدبًا مع الخالق لقنه الله عبيده، ولولا أنها منسوبة في التأثر لإرادة الله تعالى لكانت التفرقة بين أفعال الخير وأفعال الشر في النسبة إلى الله ملحقة باعتقاد المجوس بأنّ للخير إلهًا وللشر إلهًا، وذلك باطل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وتؤمن بالقدر خيره وشره» وقوله: «القدرية مجوس هذه الأمة» رواه أبو داود بسنده إلى ابن عمر مرفوعًا.
وانتصب {كل شيء} على المفعولية ل {خلقناه} على طريقة الاشتغال، وتقديمه على {خلقناه} ليتأكد مدلوله بذكر اسمه الظاهر ابتداء، وذكر ضميره ثانيًا، وذلك هو الذي يقتضي العدول إلى الاشتغال في فصيح الكلام العربي فيحصل توكيد للمفعول بعد أن حصل تحقيق نسبة الفعل إلى فاعله بحرف {إنّ} المفيد لتوكيد الخبر وليتصل قوله: {بقدر} بالعامل فيه وهو {خلقناه}، لئلا يلتبس بالنعت لشيء لو قيل: إنا خلقنا كل شيء بقَدَر، فيظن أن المراد: أنا خلقنا كل شيء مُقدّر فيبقى السامع منتظرًا لخبر {إن}.
{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50)}.
عطف على قوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 49] فهو داخل في التذييل، أي خلقناه كل شيء بعلم، فالمقصود منه وما يصلح له معلوم لنا فإذا جاء وقته الذي أعددناه حصل دَفعة واحدة لا يسبقه اختبار ولا نظَر ولا بداء.
وسيأتي تحقيقه في آخر تفسير هذه الآية.
والغرض من هذا تحذيرهم من أن يأخذهم العذاب بغتة في الدنيا عند وجود ميقاته وسبق إيجاد أسبابه ومقوماته التي لا يتفطنون لوجودها، وفي الآخرة بحلول الموت ثم بقيام الساعة.
وعطف هذا عقب {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 49] مشعر بترتب مضمونه على مضمون المعطوف عليه في التنبيه والاستدلال حسب ما هو جارٍ في كلام البلغاء من مراعاة ترتب معاني الكلام بعضها على بعض حتى قال جماعة من أئمة اللغة: الفَراءُ وثعلبٌ والربعيُ وقطربٌ وهشامٌ وأبو عمرو الزاهد: إن العطف بالواو يفيد الترتيب، وقال ابن مالك: الأكثر إفادته الترتيب.
والأمر في قوله: {وما أمرنا} يجوز أن يكون بمعنى الشأن، فيكون المراد به الشأن المناسب لسياق الكلام، وهو شأن الخلق والتكوين، أي وما شأن خلقنا الأشياء.
ويجوز أن يكون بمعنى الإِذن فيراد به أمر التكوين وهو المعبر عنه بكلمة (كن) والمآل واحد.
وعلى الاحتمالين فصفةُ {واحدة} وصف لموصوف محذوف دل عليه الكلام هو خبر عن {أمرنا}.
والتقدير: إلا كلمة واحدةٌ، وهي كلمة (كُنْ) كما قال تعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82].
والمقصود الكناية عن أسرع ما يمكن من السرعة، أي وما أمرنا إلا كلمة واحدة.
وذلك في تكوين العناصر والبسائط وكذلك في تكوين المركبات لأن أمر التكوين يتوجه إليها بعد أن تسبقه أوامر تكوينية بإيجاد أجزائها، فلكل مكوّن منها أمر تكوين يخصه هو كلمة واحدة فتبين أن أمر الله التكويني كلمة واحدة ولا ينافي هذا قوله: {ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام} [ق: 38] ونحوه، فخلق ذلك قد انطوى على مخلوقات كثيرة لا يُحصر عددها كما قال تعالى: {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق} [الزمر: 6] فكل خلق منها يحصل بكلمة واحدة كلمح البصر على أن بعض المخلوقات تتولد منه أشياء وآثار فيعتبر تكوينه عند إيجاد أوّله.
وصح الإِخبار عن (أمر) وهو مذكَّر بـ {واحدة} وهو مؤنث باعتبار أن ما صْدَق الأمر هنا هو أمر التسخير وهو الكلمة، أي كلمة (كن).
وقوله: {كلمح بالبصر} في موضع الحال من {أمرنا} باعتبار الإِخبار عنه بأنه كلمة واحدة، أي حصول مرادنا بأمرنا كلمح بالبصر، وهو تشبيه في سرعة الحصول، أي ما أمرنا إلا كلمة واحدة سريعة التأثير في المتعلّقةِ هي به كسرعة لمح البصر.
وهذا التشبيه في تقريب الزمان أبلغ ما جاء في الكلام العربي وهو أبلغ من قول زهير:
فهن وَوادِي الرسِّ كاليد للفَم

وقد جاء في سورة النحل (77) {وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب} فزيد هنالك أو {هو أقرب} لأن المقام للتحذير من مفاجأة الناس بها قبل أن يستعدوا لها فهو حقيق بالمبالغة في التقريب، بخلاف ما في هذه الآية فإنه لتمثيل أمْر الله وذلك يكفي فيه مجرد التنبيه إذ لا يتردد السامع في التصديق به.
وقد أفادت هذه الآية إحاطة علم الله بكل موجود وإيجادَ الموجودات بحكمة، وصدورها عن إرادة وقدرة.
واللمح: النظر السريع وإخلاس النظر، يقال: لَمحَ البصر، ويقال: لَمح البرق كما يقال: لمعَ البرق.
ولما كان لمح البصر أسرع من لمح البرق قال تعالى: {كلمح بالبصر} كما قال في سورة النحل (77) {إلا كلمح البصر}.
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)}.
التُفِتَ من طريق الغيبة إلى الخطاب ومرجع الخطاب هم المشركون لظهور أنهم المقصود بالتهديد، وهو تصريح بما تضمنه قوله: {أكفاركم خير من أولائكم} [القمر: 43] فهو بمنزلة النتيجة لقوله: {إنا كل شيء خلقناه بقدر إلى كلمح بالبصر} [القمر: 49، 50].
وهذا الخبر مستعمل في التهديد بالإِهلاك وبأنه يفاجئهم قياسًا على إهلاك الأمم السابقة، وهذا المقصد هو الذي لأجله أكد الخبر بلام القسم وحرففِ (قد).
أما إهلاك من قبلهم فهو معلوم لا يحتاج إلى تأكيد.
ولك أن تجعل مناط التأكيد إثبات أن إهلاكهم كان لأجل شِركهم وتكذيبهم الرسل.
وتفريع {فهل من مدكر} قرينة على إرادة المعنيين فإن قوم نوح بقُوا أزمانًا فما أقلعوا عن إشراكهم حتى أخذهم الطوفان بغتة.
وكذلك عاد وثمود كانوا غير مصدقين بحلول العذاب بهم فلما حل بهم العذاب حل بهم بغتة، وقوم فرعون خرجوا مقتفين موسى وبني إسرائيل واثقين بأنهم مدركوهم واقتربوا منهم وظنوا أنهم تمكنوا منهم فما راعهم إلا أن أنجى الله بني إسرائيل وانطبق البحر على الآخرين.
والمعنى: فكما أهلكنا أشياعَكم نهلككم، وكذلك كان، فإن المشركين لمّا حلوا ببدر وهم أوفر عددًا وعُددا كانوا واثقين بأنهم مُنقذون عيرهم وهازمون المسلمين فقال أبو جهل وقد ضَرب فرسه وتقدم إلى الصف (اليوم ننتصر من محمد وأصحابه) فلم تَجُل الخيل جَولة حتى شاهدوا صناديدهم صرعى ببدر: أبا جهل، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف وغيرهم في سبعين رجلًا ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة. والأشياع: جمع شيعة.
والشيعة: الجماعة الذين يؤيدون من يُضَافون إليه، وتقدم في قوله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا} في آخر سورة الأنعام (159).
وأطلق الأشياع هنا على الأمثال والأشباه في الكُفْر على طريق الاستعارة بتشبيههم وهم منقرضون بأشياع موجودين.
وفرع على هذا الإنذار قوله: {فهل من مدكر} وتقدم نظيره في هذه السورة.
{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)}.
يجوز أن يكون الضمير المرفوع في قوله: {فعلوه} عائدًا إلى {أشياعكم} [القمر: 51]، والمعنى: أهلكناهم بعذاب الدنيا وهيّأنا لهم عذاب الآخرة فكتب في صحائف الأعمال كل ما فعلوه من الكفر وفروعه، فالكناية في الزُبر وقعت هنا كناية عن لازمها وهو المحاسبة به فيما بعد وعن لازم لازمها وهو العقاب بعد المحاسبة.
وهذا الخبر مستعمل في التعريض بالمخاطبين بأنهم إذا تعرضوا لما يوقع عليهم الهلاك في الدنيا فليس ذلك قصارى عذابهم فإن بعده حسابًا عليه في الآخرة يعذبون به وهذا كقوله تعالى: {وإن للذين ظلموا عذابًا دون ذلك} [الطور: 47] ويجوز عندي أن يكون الضمير عائدًا إلى الجمع من قوله: {سيهزم الجمع} [القمر: 45] أو إلى {المجرمين} في قوله: {إن المجرمين في ضلال وسعر} [القمر: 47] الخ، والمعنى كل شيء فعله المشركون من شرك وأذى للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمسلمين معدود عليهم مهيأ عقابهم عليه لأن الإِخبار عن إحصاء أعمال الأمم الماضين قد أغنى عنه الإِخبار عن إهلاكهم، فالأجدر تحذير الحاضرين من سوء أعمالهم.
و {الزبر}: جمع زبور وهو الكتاب مشتق من الزبر، وهو الكتابة، وجُمعت الزبر لأن لكل واحد كتاب أعماله، قال تعالى: {وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا إقرأ كتابك} [الإسراء: 13، 14] الآية.
وعموم {كل شيء فعلوه} مراد به خصوص ما كان من الأفعال عليه مؤاخذة في الآخرة.
{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)}.
هذا كالتذييل لقوله: {وكل شيء فعلوه في الزبر} [القمر: 52] فكل صغير وكبير أعمّ من كل شيء فعلوه، والمعنى: وكل شيء حقير أو عظيم مستطر، أي مكتوب مسطور، أي في علم الله تعالى أي كل ذلك يعلمه الله ويحاسب عليه، فمستطر: اسم مفعول من سطر إذا كتب سطورًا قال تعالى: {وكتاب مسطور} [الطور: 2].